” ذو القرنين و سر النجاح في القيادة ” – الجزء الثالث –

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله و سلم على سيدنا محمد
فعودا على ذي بدء و إتماما للقول فيما بدأناه من الحديث عن بعض ما تضمنته قصة ذي القرنين من فرائد الفوائد و من عظيم النفع و بالغ الأثر في النفوس ..

فأقول و بالله التوفيق : إن كمال الإنسان بهمة تُرقِّيه، وعلم يبصِّره ويهديه ,و لقد إجتمعت هذه الأمور بجملتها في الملك الصالح ذي القرنين , فمن إقتدي إهتدى ..

و لنَعرض لما في بقية الآيات لما يمكن إيراده من الفوائد التي لها صلة بالموضوع :
قال تعالى : ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ) الكهف .

و في هذه الآيات طائفة من العبر نذكر منها ما انقدح في الذهن من غير الغوص فيما فيها من الإشارات اللغوية ..

* أولها : في قوله تعالى ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) و لقد تكررت هذه العبارة في سياق هذه هذه الايات مرتين , و كل واحدة منهما توحي الى معنى خاص , فأما الأولى – و استحضر معي سياق الايات أيها القارئ الكريم – فالعلم بالشيء والطريق الموصل إليه . وهذا يعني أن الله جل شأنه لم يكلفه بشيء دون أن يعلمه الطريقة التي يسلكها إليه , بل أمدّه بأسباب النجاح في القيادة .
و أما الثانية فتعني سلوك هذا الطريق واستعماله , و كل من عرف الطريق الصحيح فسلكه إلا وصل إلى مبتغاه , وإلا ضل وتاه , وهل رأيت عاقلا يعرف السبيل فيحيد عنه إلى غيره !
و الحاصل من ذلك كله أن التمكن من زمام القيادة يعني التمكن من زمام الأسباب و الأخذ بها و تسخيرها في ما يرضي رب الأسباب و خالقها و التوكل عليه حق التوكل الذي لا يصح إلا باتباع الأسباب , و ترك التواكل على الخلق جملة .. – و لقد تقدم بعض الكلام على هذا الامر في الجزء الاول من هذا المقال عند قوله تعالى ( فاتبع سببا )

* ثانيها : في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا )
و في هذه الآية تأكيد لما سبق ذكره من أن القائد ذو القرنين كان طوافا في الأرض له رحلات في شرقها و غربها و بالتأكيد لم تكن رحلاته فيها رحلات سياحة و استجمام و تنزه بل كانت رحلات إصلاح و دعوة و إرشاد , رحلات لها مقاصد .. – و ليست من قبيل الحركية العبثية التي يعاني منها قادتنا اليوم و التي يعاني منها المجتمع بشكل عام إلا من رحم الله – و الدال على هذا الامر قول الله تعالى في تتمة الايات : ( كذلك و قد أحطنا بما لديه خبرا ) و لو تأملت يا أخي و أختي الكريمة كلمة ” كذلك ” لوجدتها تعود على ما تقدم من الايات , فإن الله عز وجل قال: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ) أي أن ذو القرنين كما تصرف مع القوم الأولين فكذلك كان تصرفه مع القوم التالين في الرحلة الثانية , و لو قرأت الايات الان لاتضح لك معناها جيدا ..

بمعنى أن أسلوب ذي القرنين لا يتغير في سياسة الرعية من قوم الى قوم فلا يكيل بمكيالين , فكما انه يعاقب الظالمين من هؤلاء فإنه يعاقبهم من هؤلاء أيضا من غير تميز بينهم الى مواطنين من الدرجة الاولى و مواطنين من الدرجة الثانية إلخ .. و كما انه يجازي المحسنين من هؤلاء فإنه يجازيهم من هؤلاء أيضا عدلا بينهم و من غير تمييز بين الأقاليم هذا إقليم نافع و هذا غير نافع , و العدل أساس الملك , فمن أهم مميزات القيادة الجيدة ترسيخ العدل لقوله جل و علا : ( إنَ اللهَ يأمركُم أن تؤدوا الاماناتِ إلى أهلهَا وإذا حكمتُم بينَ الناسِ أن تحكُمُوا بالعدلِ) سورة النساء

و في الاية كذلك معنى جميل تقتضيه الجولة في الارض و الرحلة فيها و هو الإتصال بالرعية و عدم إطالة الغيبة عنهم و الإحتجاب عنهم , و في رسالة علي رضي الله عنه الى الأشتر النخي لما ولاه على مصر أن قال له :
” لا تطولن احتجابك عن رعيتك فإن احتجابَ الولاة عن الرعية شعبة من الضيق, وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علمَ ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير, ويعظُم الصغير، ويَقبح الحسن, ويَحسن القبيح، ويشابه الحق بالباطل ” – و بالمناسبة رسالة علي رضي الله عنه الى الأشتر النخعي رسالة غاية في الحكمة سأنشرها بمفردها إن شاء الله –

و أيضا كيف للقائد أن يحظى بالولاء إن لم تكن له جولة في رعيته و لم يكن له بهم إتصال و لو بطريقة غير مباشرة و لنضرب لذلك مثالا بسيطا , عند اتساع رقعة الدولة الأموية بشكل اصبح معه اتصال الخليفة مع رعيته امرا في غاية الصعوبة مما اضطرهم الى تفويض السلطات و اعتماد اللامركزية في القيادة لكن بعد التثبت من شرط الامانة و المقدرة في كل من ستولى المناصب الإدارية و القيادية ..

ثم قال تعالى : ( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) , أي ما عنده من عظمة الملك من جند وقوة وثروة , و تأمل معي كذلك كلمة ” خُبرا ” بضم الخاء و سكون الباء , فهو كناية عن كون المعلوم عظيما بحيث لا يحيط به علما إلا علام الغيوب ..

– و يحصل لدينا مما في هذه الايات من بعض العبر المتصلة بالنجاح في القيادة ما يلي :
* الأخذ بالأسباب و لا شيء غير الأسباب و الإصرار عليها
* الإتصال بالرعية
* الحرص على نيل الولاء من الرعية عبر الإتصال الإيجابي بهم و ليس عبر نزع الولاء منهم بالقوة
* الحكم في الناس بالعدل و عدم التمييز بينهم و ترك الكيل بالمكاييل المختلفة

و للمقال تتمة بإذن الله و الله الموفق و المعين على الصواب
– يتبع –

أضف تعليق